النمو الاجتماعي للطفل

أول العلاقات الاجتماعية في حياة الإنسان هى ما تكون بينه وبين من يقوم برعايته في أيامه الأولى.. وبناءًا على أسلوب الأم في التجاوب مع احتياجات طفلها فإن ذلك يؤثر على علاقته بالآخرين عندما يكبر، فمن الأمهات من تتعامل بصبر وحرارة واهتمام ومنهن من قد تتعامل بفظاظة أو لامبالاة، كلتا الطريقتين (الإيجابية والسلبية) ستنعكس غالبًا على شكل علاقات هذا الطفل عندما يشب بالغًا، ومن علماء النفس من يعتقد أن احساس الإنسان بالثقة في الآخرين يتحدد مبكرًا منذ عامه الأول بناءًا على تفاعل والدته معه ومنحه الرعاية الكافية.

السلوك الاجتماعي المبكر

عندما يبلغ الرضيع شهره الثاني فإنه يبتسم عندما يرى وجه والدته أو والده ولأن هذا التفاعل يبهج الوالدان فإنهم غالبًا يطيلون النظر إلى رضيعهم في انتظار ظهور تلك البسمة ومع إطالة نظر الوالدان لرضيعهم يمنحه ذلك الشعور بالطمأنينة مما يقوي ارتباطه بالوالديه.. ومع ظهور الابتسامة الأولى فإن الوالدين يفسرون ذلك بأن رضيعهم قد استطاع التعرف عليهم كما أنهم يعتبرونه دليل على حبه لهم..

في الحقيقة إن هذا التفسير غير دقيق لكن ما سنتفق عليه في هذه الجزئية هو أنه فعلاً يبعث السرور عند الوالدين مشجعًا إياهم على الاستمرار في ملاعبة طفلهم الذي غالبًا ما يستجيب بابتسامة أعرض، وهكذا فإن السلوك المتبادل بين الرضيع ووالديه يقوي من التفاعل الاجتماعي بينهم مما يؤدي إلى نشأة روابط قوية بينهم.

من متابعة نمو الرضيع بين البلاد والجنسيات والمجتمعات المختلفة لوحظ إنه في الغالب ما يبدأ كل الأطفال على اختلاف منشأهم في الابتسام تقريبًا في نفس العمر حتى أن الأطفال الذين حرموا من نعمة الإبصار فإنهم أيضًا يبدأون الابتسام في نفس العمر ولكن يكون ذلك كاستجابة لسماع صوت الأم.

ببلوغ الرضيع الشهر الثالث أو الرابع يستطيع ساعتها التعرف على أفراد الأسرة – غير والده ووالدته – الموجودين  من حوله ونقصد أن يتعرف عليهم ويعرف وجوههم كأفراد مألوفين بالنسبة له ولا نقصد أنه يعرف أن تلك أخته أو أن هذا أخيه، ويظهر معرفته لهم عندما يبتسم أو يصدر صوتًا بصورة أعلى عندما يقع نظره على تلك الأوجه التي يتكرر نظره إليها يوميًا تقريبًا وحتى ذلك العمر فإن الرضع يظهرون قدرًا من تقبل الغرباء وغالبًا ما يزول هذا التقبل عند بلوغ الشهر السابع أو الثامن عندما تنمو القدرة لديهم لتمييز الغرباء عن غيرهم فتبدو عليهم علامات التوتر والخوف عند وجود شخص غريب عن أفراد الأسرة المعتادين له.

غالبًا ما يزعج رد فعل الرضيع الجديد أسرة الطفل وخاصةً أنهم كانوا سعداء منذ أيام أو أسابيع لأنه يبتسم لكل من يحاول مداعبته أو حمله من الأهل والجيران والأقارب والمعارف لكن عند بلوغه شهره السابع ومع إنطلاق الصيحات والعراك عند رؤية الغرباء أو محاولة حمله من واحد منهم فإن هناك من الأمهات من تقول إن ابنها “بقى وحش” وأنه كان أحسن حالاً..

لكن مالا تعرفه الأم أو الأب أن هذا الفعل لم يكن ليظهر لو لم ينمو عند الطفل القدرة على التمييز بين الأشخاص الذين يتعامل معهم وأنه كان في الأيام السالفة يتقبل الجميع جهلاً منه فقط بكونهم غرباء.

ورغم أن ليس كل الأطفال يظهرون هذا الخوف في هذا العمر وهو ما نسميه بقلق رؤية الغرباء.. إلا أننا نعتبره مرحلة عادية من النمو الإدراكي للرضيع وغالبًا ما يزداد نموًا من الشهر الثامن وحتى نهاية العام الأول.

ومع مرور الوقت يبدأ الرضيع نوع آخر من الخوف وهو “خوف الانفصال” عند الوالدين ويبلغ ذروته بين الشهر الرابع عشر والثامن عشر من العمر، وغالبًا ما يقل تدريجيًا حتى أننا نرى معظم الأطفال ببلوغهم عامهم الثالث يتفاعلون بأمان مع غيرهم من الأطفال والغرباء حتى في غياب تام لوالديهم.    (للتفاصيل ارجع لمقال قلق الانفصال)

ظهور وإختفاء كلا النوعين من الخوف غالبًا ما يكون مرتبط بنشأة الطفل والبيئة التي تحويه.. فالأمر يختلف من مجتمع إلى آخر كما أن الاختلاف بين المجتمعات يظهر فارقًا في المرحلة العمرية التي يظهر فيها الخوف من الغرباء أو الخوف من البعد عن الوالدين..

 

بعد الكثير من الدراسات على العديد من المجتمعات المختلفة منها الشرقية والغربية والإفريقية والهندية وجد أن الأمر يتعلق بعاملين أساسيين:

  1. مدى نمو الذاكرة عند الطفل:

خلال النصف الثاني من العام الأول من العمر يكون الطفل قد اكتسب الكثير من المعلومات التي سجلت على ذاكرة الأحداث الماضية والتي وقتها يمكنه أن يقارنها بواقعه المحيط وساعتها فإنه يستطيع ملاحظة التباين مما قد يبث فيه الخوف أحيانًا من الأحداث غير المعتادة أو غير متوقعة، كما أن الخوف من الغرباء قد ينشأ نتيجة كتذكره لعدد من المفاجآت حدثت له وأزعجته مثل (لعبة عفريت العلبة مثلاً) مما يحعله يتوقع في أى حدث جديد وكأنه سيفزعه عندما يفاجئه..

بمرور الوقت يدرك الطفل أن هؤلاء الغرباء لن يسببوا له أذى وساعتها يأخذ قلقه وخوفه في الإنصهار تدريجيًا..

كما يتجلى دور الذاكرة في مسألة “بقاء الأشياء” فكل طفل لم يبلغ العامين يتصور أن أى شئ مادام لا يوجد أمامه ولا تستقبله حواسه يظنه لا وجود له حيث أن عملية التخيل عند رضيع في سن مبكر تكون أمرًا صعبًا.. فمثلاً لو كان أمامه مكعب ثم أخفيته وراء ظهرك فإن الطفل يظن أن هذا المكعب قد اختفى من الوجود.

عند إتمام الطفل عامه الثاني ينمو عنده مبدأ “بقاء الأشياء” وساعتها يدرك أن المكعب وإن كان لا يراه بعينه لكنه يفترض أن المكعب موجود لكنه لا يستطيع رؤيته…

عندما تتطور قدرات الطفل المعرفية حتى يفكر بطريقة بقاء الأشياء عندها حتى لو اختفت والدته من أمامه إلا أنه يدرك أنها موجودة لكن قبل هذا السن فإن اختفاءها من أمامه كان يعني بالنسبة له اختفاءها من الوجود مما يصيبه بالذعر.

وكما أن للذاكرة دور في بث الخوف في بادئ الأمر لكن من خلال ملء الذاكرة بمعلومات جديدة منها إن والدته لو اختفت فستظهر ثانيةً ومع تكرار الموقف مرات ومرات يدون الطفل في  ذاكرته أن مع كل مرة تتركه فيها والدته قد تبعها ظهورها ثانيةً ومن هنا يبدأ لديه شعور بالأمل والأمان في عدم تركه وحيدًا لأنه متوقع ظهورها في أى لحظة.

 

  1. نشأة الاستقلالية عند الطفل:

أثناء العام الأول من عمر الإنسان فإنه كلية يعتمد على غيره لكن الطفل ذو العامين أو الثلاث أعوام يستطيع الاستقلال في عدة أمور، كما أنه يستطيع التعبير بكلمات أو جمل عما يريد أو يشعر.. لذا فإن اعتماده على غيره ينحصر مما يجعل من حتمية تواجده بالقرب من والديه غير حتمي.

 

ارتباط الطفل بوالديه

يميل الأطفال إلى التواجد بالقرب من الأم أو الأب ويمنحهم هذا القرب شعور بالأمان، ولهذا الارتباط في الفترة الأولى من العمر دور في حماية الصغير من البعد عمن يحميه ويرعاه.

هناك من فسر سبب هذا الارتباط بأن الأم هى مصدر الغذاء والطعام في الأيام الأولى لكن بالنظر إلى باقي المخلوقات من حولنا لوجدنا أن كائنًا بسيطًا مثل البط يستطيع إطعام نفسه منذ لحظات حياته الأولى لكنه رغم ذلك يرتبط بمن يكبره، كما أن العديد من التجارب التي أجريت على حيوانات أخرى لم تستطع في نتائجها أن تقصر عملية الارتباط بين الطفل والوالدين على مجرد تلبية حاجته للطعام فقط.. ولكن الاحساس بالأمان في وجود الأم يأتي في المقام الأول حتى أن محاولات الطفل لاستكشاف بيئته من حوله من الصعب أن تتم إلا لو كانت الوالدة أو الوالد بالقرب من طفلهم، فالطفل ينطلق مستكشفًا من حوله في نهاية عامه الأول والثاني وعينيه على والدته لحظة بعد أخرى حتى يتشجع لاستكشاف ما حوله.. أما لو غابت والدته فإن شعورًا بالقلق والترقب يحرمه من الشروع في تلك المهمة لذلك فإن ارتباط الرضيع بوالدته يهدف للشعور بالأمان أولاً.

عن د.محمد حسين

دكتور محمد حسين؛ مؤسس موقع نفسي دوت نت. استشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان استشاري الطب النفسي للأطفال والمراهقين. الزمالة المصرية للطب النفسى الزمالةالمصرية لطب النفس الأطفال والمراهقين عضو الجمعية المصرية للطب النفسي. عضو الجمعية المصرية للعلاج المعرفي السلوكي. عضو الجمعية المصرية للطب النفسي للأطفال والمراهقين.

أبحث أيضاً في

الهلع له علاج

إضطراب الهلع من الإضطرابات النفسية الشهيرة ورغم إنتشاره إلا إن  كتير من الناس ليس لديها …