قلق الانفصال عند الأطفال

القلق هو واحد من أكثر الاضطرابات انتشارًا بين الشباب لذا فإن حوالي 10% من الأطفال والمراهقين يعانون منه في مرحلة أو أخرى من حياتهم.

قلق الانفصال من العادات الإنسانية المعروفة والتي نراها في كل الشعوب والأعراق.. وتبدأ في الظهور أولاً قبل أن يتم الطفل عامه الأول وهى علامة مميزة لإدراك الطفل بعملية انفصاله عن والدته (أو من يحل محلها) كمرحلة من مراحل النمو الطبيعي.. فإن قلق الانفصال يظهر بوضوح ما بين 9 أشهر إلى 18 شهر.. ويبدأ في الاختفاء ببلوغ الطفل نصف عامه الثالث (30 شهر).. ولإختفاء ذلك التوتر دور هام في عدم شعور الطفل بالخوف والقلق حينما يبتعد قليلاً عن والديه مع بدايات حياته الاجتماعية التي تتناسب مع مثل هذا السن..

قلق الانفصال هو رد فعل خلقه الله تعالى في الأطفال في مرحلة معينة كباقي المخلوقات كوسيلة للحفاظ على الجنس البشري ومن غير الطبيعي ألا يشعر الطفل الذي لم يتجاوز عمره السنة من الخوف من الغرباء أو أن يبدي لامبالاة تجاه غيابه عن والدته حتى أن ذلك قد يعتبر مع غيره من الأعراض علامة مرضية..

ورغم أن قلق الانفصال عادة ما يختفي في العام الثالث من عمر الطفل إلا أنه قد يعاود الظهور لاحقًا عند دخول المدرسة ولكن غالبًا ما يكون بشكل مؤقت حتى يألف الطفل تلك الدنيا الجديدة..

عند لقاء الأطفال بغرباء لا يألفونهم أو عند ذهابهم إلى أماكن جديدة لم يعتادوا عليها فإن 15% منهم يشعرون بالخوف والخجل مما يؤدي إلى إنعزالهم الاجتماعي.. وهذه النسبة من الأطفال هم الأكثر عرضة للإصابة بعدد من الاضطرابات الأخرى مثل القلق العام أو الخواف الاجتماعي. كما ان هذه المجموعة من الأطفال عادةً ما يلاحظ عليهم بعض الاضطرابات الفسيولوجية مثل زيادة ضربات القلب في وضع الراحة أو إرتفاع معدل هرمون الكورتيزول خلال فترة الصباح عن معدله الطبيعي المعروف أو اضطراب ضربات القلب عموماً.

الصورة المرضية لاضطراب قلق الانفصال عند الأطفال:

يتم تشخيص قلق الانفصال عندما يكون هناك قلق شديد ومبالغ فيه بسبب البعد عن الشخص الذي يقدم الرعاية للطفل كالأم أو الأب أو من يحل محلهما.. ولا تتوافق شدة القلق والتوتر مع المرحلة العمرية لنمو الطفل الطبيعي.

يعبر الطفل عن شعوره بقلق الانفصال بتوتر شديد وقلق مرتبط بفكرة الانفصال عن ذلك الشخص العزيز والذي يرتبط به وغالبًا ما يكون الأب أو الأم أو أحد أفراد العائلة التي تقدم له الرعاية والحب والحنان ويظهر ذلك القلق والذعر في عدة صور كرفض الطفل أن يذهب إلى مدرسته، أو الخوف الشديد من أن يتركه والده أو والدته لأى سبب ولأى فترة. كذلك الشكاوى الجسمانية العديدة مثل الصداع وآلام المعدة أو الغثيان أو القئ بمجرد البعد عن والده أو والدته أو حتى بمجرد توقعه أن ذلك سيحدث وخلال خوفه يعاني من الأحلام المزعجة والتي غالبًا ما يكون محتواها مرتبط بفكرة البعد عنهم.

ولكى يتم تشخيص قلق الانفصال في الأطفال فلابد أن يعاني الطفل من 3 أعراض على الأقل من الأعراض التالية لمدة لا تقل عن 4 أسابيع:

  1. الشعور المتكرر بالتوتر الشديد عند الابتعاد عن البيت أو أحد الوالدين (أو من يحل محلهم).
  2. الشعور المستمر بالخوف الشديد من فكرة إصابة أو فقدان الأم أو الأب (أو من يحل محلهم).
  3. استمرار الخوف الشديد من أن حدثًا ما سيؤدي إلى انفصاله عن والديه.
  4. استمرارية رفض الطفل الذهاب إلى المدرسة أو أى مكان آخر خشية أن يبتعد عن والديه.
  5. الخوف الشديد أن يصبح الطفل وحيدًا دون والديه أثناء بقائه في المنزل أو حتى غياب الرفيق البالغ في الأماكن الأخرى.
  6. الإصرار على عدم الذهاب إلى فراشه لينام إلا في حالة وجود أحد ممن يرتبط بهم (الأب أو الأم) بالقرب منه أو رفضه أن ينام خارج المنزل (عند الجدة مثلاً).
  7. تكرار الكوابيس والأحلام المزعجة والتي غالبًا ما تدور عن فكرة بعده عن والديه.
  8. تكرار الشكوى من آلام جسدية (صداع، آلام بالمعدة، الغثيان، القئ) بمجرد البعد عن الوالدين أو من يرتبط بهم بشدة أو حتى عند توقعه حدوث ذلك.

وحتى يكون التشخيص سليمًا فلابد أن تحدث هذه الأعراض في شخص لم يبلغ من العمر 18 سنة وتبلغ شدة الاضطراب بحيث تؤثر على حياة الشخص الاجتماعية والأكاديمية أو الوظيفية وغيرها من محاور حياته، وبالطبع لابد من التأكد من عدم إصابة الطفل بأى اضطرابات نفسية أخرى قد تسبب مثل هذه الأعراض كإصابته بأحد الاضطرابات الذهانية أو الاضطرابات النمائية الشاملة، وأن ذلك بسبب إصابته بنوبة من نوبات الهلع أو رهاب الأماكن المفتوحة.

العلاقة المميزة لقلق الانفصال عن والديه أو المنزل أو بيئته التي اعتادها وعادةً ما يكون ذهن الطفل مشغول بالمخاوف والمصائب التي قد تصيبه أو تصيب أحد والديه أو أحد أفراد الأسرة كما أن الأطفال الذين يعانون من اضطرابات القلق عامة وقلق الانفصال خاصةً عادةً ما يبالغون في تقدير درجة الخطر والضرر الذي يواجهونه وكذلك المبالغة في حجم العواقب المترتبة على ذلك.

كما أن الطفل عادة ما ينشغل بفكرة ترعبه من الحين إلى الآخر وهى احتمال أن يتوه من والديه أو أنه لن يستطيع لقاء أسرته مرة أخرى وقد تكون فكرة السفر إحدى الوسائل التي تهيج على الطفل أعراض القلق فمعظم هؤلاء الأطفال يرفضون الذهاب إلى المعسكرات أو الانتقال إلى مدرسة أو مسكن جديد أو رحلة مع المدرسة أو حتى زيارة أحد الأقارب وغالبًا ما يظهر خوفهم في الأعراض التالية:

  1. التوتر وسرعة الغضب.
  2. تناول الطعام بصعوبة.
  3. البكاء.
  4. الجلوس في حجرته بمفرده طويلاً.
  5. التشبث بوالديه والمشى وراءهم أينما ذهبوا.

وتظهر علامات القلق عند انتقال الطفل من بلد إلى بلد أو السفر من دولة إلى دولة، ويحن الطفل للعودة إلى موطنه القديم ويظل مشغولاً بذكريات جميلة تتعلق به وهذا مما يعيق تأقلمه مع بيئته الجديدة.

عادةً ما يعاني هؤلاء الأطفال من اضطراب النوم بل أنهم في الحالات الشديدة لا ينامون إلى في وجود أحد برفقتهم، وحتى بعد معركة دخولهم للنوم فإن الطفل يكون من السهل أن يستيقظ بل أن بعض الأطفال يذهب لوالديه لينام معهما حتى يهدأ أو حتى ينام على باب حجرتهما ليطمئن قلبه.

وحتى إن نام فإن نومه لا يخلو من الأحلام المزعجة كما أن هناك عدة أعراض مصاحبة مثل الخوف من الظلام أو المخاوف التخيلية والغريبة مثل الوحوش الوهمية التي يخشى هجومها عليه أثناء نومه.

ولأن هؤلاء الأطفال قلقين بطبيعتهم فإن ذلك يؤدي إلى سهولة تأثرهم بأقل المؤثرات فسرعان ما يبكون في المواقف التي قد يتحملها غيرهم من الأطفال، وبسبب تلك الحساسية المفرطة فإنهم لا يخلون من الشكاوى الجسدية مثل الشكوى من آلام بالمعدة أو القئ والشعور بالغثيان أو الشكوى من آلام متفرقة في أماكن متفرقة في الجسم، وفي الأطفال الأكبر سنًا يشكو الأطفال من أعراض مماثلة لتلك التي يشكو منها البالغون (ارجع إلى باب القلق بالموقع).

ولنضرب مثالاً لحالة مرضية.. الطفل “ك”:

“ك” طفل عمره 8 سنوات يعاني من صعوبة في النوم في حجرته إذا كان بمفرده ليلاً.. مؤخرًا رفض الذهاب إلى المدرسة.. يعاني “ك” من الخوف المستمر أن شيئًا ما سيصيب والدته وكانت فكرته أنها ستصاب في حادث سيارة هو ما يرعبه أو أن حريقًا قد ينشب في المنزل وستصاب بأذى..

ذكر والده أنه منذ صغره قلق ومتوتر بالإضافة أنه لم يتكيف بسهولة مع المربية التي أسندت والدته رعايته لها أثناء ذهابها إلى العمل.. بتقصي التاريخ المرضي للأسرة وجد أن والدته تعاني من اضطراب الهلع ومن الخوف من الأماكن المفتوحة كما أن والده كان يعاني من الاكتئاب.

الليل هو أكثر الأوقات صعوبة على “ك” لذا كانت والدته تجاهد  لتحد من وطأة ذلك الرعب والخوف الذي ينتابه يوميًا في نفس الميعاد فكانت تروي له بعض القصص أو تحاول أن تلاعبه لكن ذلك فشل في منعه عن التعبير المفاجئ عن خوفه بشئ من الصراخ طالبًا بقاء والدته معه في السرير حتى تتأكد أنه نام بالفعل وأى بديل آخر مرفوض، حتى أنه طلب من والدته أن تنام في الحجرة التي بجواره وتتخلى عن غرفة نومها لكى يشعر بالأمان.

وبالفعل كانت أمه تنفذ طلباته وكانت تقول أنها كانت تشعر به يفتح حجرتها عليها كل 10 دقائق تقريبًا ليتأكد من وجودها داخل الغرفة.

كان “ك” يحلم أثناء نومه بعدد من الكوابيس التي تدور حول فكرة مقتل والديه وأن وحشًا سيأخذه بعيدًا عنهم.

بالنهار كان يرافق والدته وكان يوافق أحيانًا أن يترك والدته قليلاً ليعلب مع أخته لكن بشرط أن تكون الأم قريبة منهما ولو حاولت التسلل بعيدًا ينفجر في البكاء والصراخ ويترك اللعب مع أخته ليلحق بوالدته.

في نهاية الأسبوع تقضي أسرته ليلة الخميس عند جدته وكانت تظهر مشاكل أخرى فكان لا ينام إذا انتقل إلى أى منزل آخر غير منزله فلم يكن يألف منزل جدته، ومع اقتراب وقت النوم المعتاد يشكو من آلام في معدته ويبدو عليه الشعور بالحزن واشتياقه لوالدته التي لم تذهب مع الأسرة لبيت الجدة ليتطور الأمر بصراخ وعويل مما يجبر الأب في منتصف الليل ليترك الجدة ويأخذ “ك” ويعود إلى المنزل.

مع بداية كل يوم تحاول الأم إيقاظه للذهاب إلى المدرسة لكن فجأة وبدون مقدمات تبدأ الشكوى من آلام المعدة محاولاً أن يظل في المنزل تجنبًا للذهاب إلى المدرسة.. ومع تجاهل الأم لتلك الشكاوى المتكررة وحين يتأكد أن والدته لن تستجيب له يظهر على وجهه علامات الفزع وبعد وصوله للمدرسة يبدو هادئًا لفترة قصيرة لكنه سرعان ما يبدأ الشكوى من الغثيان وآلام المعدة حتى يتم إعادته إلى منزله.

لماذا يصاب الأطفال بقلق الانفصال؟

تشترك العوامل النفسية والاجتماعية بالإضافة إلى طبيعة مزاج الطفل الذي ولد عليه في التأثير على شدة معاناة الطفل من قلق الانفصال التي تظهر في فترات الابتعاد القصيرة عن من يألفهم أو رؤيته لفترة قصيرة لأشخاص لا يألفهم وعندما يكون الطفل بطبيعته خجولاً أو معتادًا على الابتعاد عن المواقف التي لم يعتاد عليها فإنه أكثر عرضة للإصابة بقلق الانفصال وغيرها من اضطرابات القلق مثل اضطراب القلق العام أو الرهاب الاجتماعي.

بمتابعة هؤلاء الأطفال وجد أنه مع حدوث الخجل عند الطفل فإن ذلك يصحبه عدة تغيرات عصبية وفسيولوجية مثل ارتفاع عدد ضربات القلب في وضع الراحة وكذلك مع العمليات التي تحتاج إلى زيادة في التركيز والانتباه، بالإضافة إلى زيادة إفراز هرمون الكورتيزول في اللعاب وزيادة مواد الكاتيكول أمين في البول وإتساع حدقة العين..

درجة تعلق الطفل بأمه من العوامل المؤثرة في ظهور قلق الانفصال كما أن طبيعة الأم القلوقة التي غالبًا ما تشعر بالتهديد نحو أطفالها وتعتقد دائمًا أن خطرًا ما قد يصيبهم فإن هذا الخوف والقلق غير المبرر ينعكس على علاقة الأم بطفلها فهى تحاول دائمًا أن تطمئن نفسها وغالبًا بأسلوب مرضي يؤدي في النهاية إلى ارتباط مرضي لطفلها بها وعادةً ما ينشأ هذا الطفل في أسرة تسرف في الرعاية والاهتمام ولا يتجه هذا الاهتمام المبالغ إلى الأطفال.

ظهور التوترات في محيط الأسرة عادةً ما يزعزع من شعور الطفل بالأمان وهو ما قد يؤدي إلى نشوب قلق الانفصال لخوف الطفل من فقد الرعاية والحماية وخاصةً إذا كانت هذه الأحداث الطارئة عبارة عن موت أحد أفراد العائلة أو سفره فجأة أو الانتقال إلى مسكن جديد والتعامل مع جيران جدد وفقدان القدماء الذين تعود عليهم فطالما ألف أولاد الجيران أو حتى عند نقله إلى مدرسة جديدة كل تلك العوامل لا تؤثر إلا في طفل عنده الاستعداد للمرض وليس كل الأطفال سيصاب بقلق الانفصال لمجرد انتقالهم إلى مسكن جديد أو مدرسة جديدة.

دور التعلم الاجتماعي:

يتعلم الأطفال من والدتهم الكثير ويكتسبون من أفعالهم وسلوكياتهم ما قد يفيدهم أو يضرهم وفقًا لما تعلموه من سلوكيات، وعادةً ما يكون ذلك من خلال وسيلة التعلم المعروفة “التعلم بالنموذج” فعندما يفعل الشخص البالغ شئ أمام طفله يفعله الطفل ليقلد أباه أو أمه ومن ثم يتعود على فعله ويصبح بعد ذلك طريقته في التعامل أو التفاعل مع المتغيرات أو المنبهات من حوله وقد يكون من الأمور الخاطئة المكتسبة هو الخوف غير المبرر من الأشياء أو الأماكن أو الأشخاص غير المألوفة.

وبهذا فإن الكثير من الآباء والأمهات يغرسون الخوف والقلق في أطفالهم عن غير قصد بل بسبب الخوف المفرط عليهم فيظهر ذلك بالمبالغة في حمايتهم من الأخطار بل ومن الأمور العادية التي لا تسبب خطر.. كما أنهم يبالغون في وصف المخاطر لتنبيه أبناءهم (خلي بالك، أنت ممكن يحصلك كذا وكذا…) فالأب الذي يختبئ في حجرته إذا سمع صوت الرياح أو صوت الرعد من الطبيعي ساعتها أن يفعل الابن مثله ويتعود على ذلك كرد فعل لهذا المؤثر ومع الوقت لا يفعل إلا كما تعلم رغم بعد منزله عن آثار الريح.. كذلك الأمهات اللاتي يخفن من الحشرات أو الفئران فإذا كانت الأم تقفز فزعًا إلى أعلى مكان تجده في البيت إذا رأت صرصار فماذا تنتظر من ابنتها؟ سينتقل هذا الأسلوب إلى أطفالها فليس عند الأطفال تفسير إلا أن هذا الصرصار هو وحش مفترس ولابد من الهروب منه بأى وسيلة حتى لو كانت الصعود إلى أعلى الدولاب.. أما لو عودتها الأم على أنه كائن لا بيهش ولا بينش وتعاملت معه كأنها رأت ورقة شجر فإن احتمالات أن يخاف الطفل من ذلك الكائن الضعيف أقل بكثير.

لكن هل للعوامل الوراثية دور في ذلك؟

حاولت العديد من الدراسات الإجابة عن هذا السؤال فوجدت أن ثلث المصابين بحالات القلق عامة لديهم بعض العوامل الوراثية التي تؤدي إلى معاناتهم من تلك الاضطرابات والتي تظهر مبدأيًا في شكل الحالة المزاجية للطفل أو أفعاله الانعزالية أو خجله الشديد لكن ولله الحمد فإن ثلثى الحالات التي تعاني من الخجل والانسحاب الاجتماعي والعزلة لا تصاب فيما بعد بأى من اضطرابات القلق وآخر ما أثبتته الأبحاث أن ما يتوارثه الطفل من والديه هو “الاستعداد المرضي” وليس المرض ويبقى دور باقي العوامل النفسية والاجتماعية ليظهر المرض أو أن يفلت منه.

هل يعتبر قلق الانفصال من الاضطرابات الشائعة:

تنتشر اضطرابات القلق عامة بين الأطفال بنسبة تصل إلى 10% وتختلف بحسب الفئات العمرية المختلفة أما عن اضطراب قلق الانفصال خاصة فينتشر بنسبة 4% بين الأطفال والمراهقين ولكن في الأطفال أكثر منه في المراهقين كما أنه ينتشر في الأولاد بنفس معدلات انتشاره بين البنات.

التشخيصات المشابهة:

أن يشعر الطفل بدرجة من القلق والتوتر عندما يبتعد عن والديه  فهذا أمر مقبول إذا كان في حدود الاعتدال وما دام الطفل لازال صغيرًا وهنا يأتي أهمية الكشف لتحديد شدة القلق وللتمييز بين المقبول وما يحتاج إلى علاج.. فطفل في عمر المدرسة يرفض الذهاب إليها بشدة لخوفه من ترك منزله فليس هذا أمرًا عاديًا.. لكن يجب البحث عن سبب رفضه الذهاب للمدرسة، فهناك العديد من الأسباب غير خوفه من ترك المنزل والبعد عن والديه تمنعه من الذهاب للمدرسة ويساء فهمها واعتبارها قلق انفصال، فربما هذا الطفل يخشى التواجد في أماكن التجمعات أو يخشى نقد زملائه ومدرسيه له ويخشى التوبيخ الذي لم يعد يغيب عن مدارسنا اليوم..

من التشخيصات المشابهة لقلق الانفصال عدة اضطرابات تعرف باسم الاضطرابات النمائية الشاملة (ارجع إليها بالتفصيل في الموقع) كما يتشابه الفصام في الأطفال معه.. فنجد في تلك الحالات أن الطفل يخاف من البعد عمن يرعاه لكن عادة ما يكون هذا الخوف بسبب تلك الاضطرابات وليس لإصابته بقلق الانفصال كاضطراب مستقل.

الاكتئاب في الأطفال غالبًا ما يصاحبه قلق الانفصال..

من الاضطرابات التي قد تتشابه “اضطراب المسلك” ويمكن الرجوع إليه بالتفصيل في الموقع.. نتيجة إتفاقهما في أمر وهو عدم استجابة الطفل لما طلب الوالدين في عدة أمور منها الذهاب إلى المدرسة لكن التمييز بينهما بسيط.. فالطفل الذي يعاني من اضطراب المسلك يرفض الذهاب إلى المدرسة ليس خوفًا من ترك المنزل لكن ليمضي الساعات في الشوارع أو اللعب أو غيرها ولا يزعجه أبدًا أمر البعد عن المنزل.

لذا نقول أن رفض المدرسة من الأمور المعتاد رؤيتها في الأطفال التي تعاني من قلق الانفصال لكنها ليست قاصرة عليه فقد نجدها في غيرها من اضطرابات الأطفال السلوكية والنفسية.

ويتشابه مع قلق الانفصال باقي اضطرابات القلق الأخرى مثل اضطراب القلق العام أو الهلع أو رهاب الأماكن المفتوحة.

هل سيظل طفلي هكذا؟

يعتمد مسار ومآل قلق الانفصال على عدة عوامل منها عمر الطفل عند ظهور الأعراض والمدة التي استمرت فيها وظهور اضطرابات نفسية مصاحبة مع القلق والاكتئاب..

بمتابعة عدد كبير من الأطفال الذين يعانون من اضطرابات القلق وجد أن 82% منهم اختفت عندهم معظم الأعراض بمرور ثلاث سنوات وبمتابعة نفس المجموعة وبالتحديد المجموعة التي كانت تعاني من قلق الانفصال وجد أن 96% منهم قد عافاهم الله منه مع المتابعات الطبية وخضوعهم للعلاج النفسي خلال العام الأول من بدء العلاج..

بداية ظهور الأعراض في سن مبكر وتأخر التدخل العلاجي من الأمور التي تنم عن مآل غير مبشر لكن رغم أن عددًا كبيرًا من الأطفال قد تعافوا من القلق لكن عددًا كبيرًا منهم قد ينشأ لديهم عدد من الاضطرابات النفسية الأخرى وبالطبع يكون الأمر أسوأ إذا تصاحب إصابة الطفل بالاكتئاب مع إصابته بقلق الانفصال.

أكدت الدراسات الحديثة احتمالية إصابة الطفل بالقلق تزداد إذا كان والديه قلقين بطبيعتهما.. كما أن هناك احتمال للإصابة بواحد أو أكثر من اضطرابات القلق الأخرى مثل الهلع أو رهاب الأماكن المفتوحة عند بلوغهم.

العــــــــــــــلاج

يحتاج المريض إلى عدة أشكال من صور العلاج مثل العلاج المعرفي السلوكي والعلاج الدوائي بالإضافة إلى التدخل النفسي الاجتماعي الموجه للأسرة وتقديم التثقيف الصحي لهم للتعرف على طبيعة المرض ولماذا ينشأ وكيف يعالج..

يعتمد العلاج الدوائي على مجموعة مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية SSRIs وقد ثبت أمان وفاعلية عقار فلوفوكسامين في علاج قلق الانفصال وفي دراسة على عدد كبير من الأطفال الذين يعانون من قلق الانفصال خضعوا للعلاج بعقار فلوفوكسامين كانت نسبة التحسن 76% وبالطبع لم يظهر تأثير الدواء المبدأي قبل أسبوعين من انتظامهم على الدواء بجرعة 50 – 250 جم يوميًا ويلزم انتظام الطفل على الدواء لمدة لا تقل عن 6 أشهر..

وفي دراسة حديثة تم استخدام عقار فلوكستين بجرعة 20 مجم فوجد أنه آمن وفعال على الأطفال الذين يعانون من هذا الاضطراب لكن مع بعض الآثار الجانبية مثل الصداع واضطراب المعدة.

وعامة فإن أدوية مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية مثل (فلوكستين، فلوفوكسامين، سيرترالين، باروكستين، سيتالوبرام، اسيتالوبرام) أثبتت فاعلية وأمان في علاج اضطرابات القلق في الأطفال.. كما أن هناك أدوية اخرى مثل عقار دايفن هيردامين (بينادريل) من الممكن استخدامه لعلاج اضطرابات النوم المصاحبة للقلق كما يمكن استخدام أدوية البنزوديازيبين لمدة قصيرة لا تتعدى من أسبوعين لأربعة أسابيع لعلاج القلق في الأطفال.

لكن العلاج الدوائي هو الخيار الثاني في العلاج ليأتي العلاج المعرفي السلوكي في المقام الأول.

العـــــــلاج المعرفــــــي السلوكــــــي

هو الخيار الأمثل لعلاج اضطرابات القلق بصفة عامة وقلق الانفصال بصفة خاصة.. فقد ثبتت فاعليته في علاج الكثير من اضطرابات القلق..

يحتاج الطفل أن يتم تدريبه على تمارين الاسترخاء (ارجع إلى الاسترخاء بالتفصيل على الموقع) وعندما يتقنها ستكون سلاحًا يستخدمه وقت الحاجة.

طريقة التعلم “بالنموذج” من الوسائل الفعالة فيقوم المعالج أو الوالدين بفعل الأمر الذي يراد أن يفعله الطفل كأن يتعرض المعالج لأمر يخافه الطفل ومع تكرار ذلك أمامه ستقل رهبته.

تحتاج الأسرة إلى تعلم “كيف تتعامل مع الأزمات والطوارئ” دون الاسراف في التوتر والقلق.. الأهم من ذلك هو التعرض التدريجي للمواقف المخيفة للطفل وتدريجيًا يزول معها الخوف والقلق.. هذا هو مبدأ العلاج.

الهدف من التعرض للمواقف أو الأشياء المخيفة (سواء كان ذلك تعرضًا حقيقيًا أو تخيليًا) هو منح الطفل الفرصة لتعلم الجديد من المهارات التي تعينه على التأقلم مع تلك المواقف والحد من القلق الزائد وتعلم ذلك في جو آمن وتحت رقابة الوالدين حتى يتمكن المريض من المضى قدمًا.

يتعرض الطفل إلى الموقف المخيف بطريقة تدريجية بدءًا بالأسهل وصعودًا إلى الأصعب ومع التغلب على الأسهل يكتسب الطفل بعض المهارات والثقة مما يشجعه لتكرار ذلك والقدوم على ما هو أصعب ويعتمد قرار الانتقال إلى المستوى الأصعب هو مقدار النجاح في المستوى السابق.

دور الأسرة في العلاج:

كما أن للأسرة دور في ظهور الأعراض لذا لن يغيب دورهم عند العلاج. فدور الأسرة في العلاج محور أساسي.. لابد أن يتعلم الآباء والأمهات كيفية ضبط النفس وقياس الأمور بمقاييسها الصحيحة وعدم تهويل الأمور وعدم الاسراف في تقدير المخاطر.. دور الوالدين هام جدًا عند البدء في تنفيذ الخطة العلاجية فيحتاج الأمر إلى قليل من الحزم والمثابرة عند التعامل مع سلوكيات الطفل المرفوضة.

من دعائم العلاج السلوكي مشاركة الأسرة في العلاج فلابد أن يتعلم الوالدان كيف يصبحا نموذجًا وقدوة فعالة لأطفالهم للتغلب على المواقف المخيفة التي عادةً ما يتجنبها الطفل خوفًا منها.. وإذا اقترن العلاج الفردي للطفل مع مشاركة الأسرة في العلاج فإن نتائج العلاج ستكون مرضية.

التعامل مع رفض الذهاب إلى المدرسة:

يعتبر رفض الذهاب إلى المدرسة من الطوارئ التي تحتاج إلى تدخل سريع.. ويبدأ العلاج بخطة طويلة تقوم على تعاون الطفل والوالدين والمدرسين ورفاق الطفل في المدرسة.. وتهدف إلى تشجيع الطفل على الذهاب إلى المدرسة في ظل خطوات تدريجية في نهايتها يستطيع الطفل البقاء في المدرسة حتى نهاية اليوم الدراسي وهذا هو الإنجاز الكبير الذي يستحق عليه المكافأة.. أى أنه أقصى المطلوب.. في البداية يكون الهدف المراد تحقيقه أن يتحمل الطفل أن يبتعد عن المنزل حتى يصل إلى المدرسة ولو رفض الدخول في البداية فهذا يكفي مبدأيًا.. ثم في اليوم التالي أو بعده بيومين يتغير الهدف ليكون “بقاء الطفل في المدرسة” ولو لحصة واحدة.. وعلى هذا يسير الحال لمدة 3 أيام ثم من اليوم الرابع يلزم أن يبقى في المدرسة حتى الفسحة ثم بعد عدة أيام يتم زيادة الوقت وهكذا.. حتى ينجح الهدف المنشود وهو إتمام اليوم الدراسي كاملاً في المدرسة.. يحتاج هذا البرنامج إلى تعاون إدارة المدرسة حتى لا تصبح عائقًا في طريق تنفيذ الخطة العلاجية.. ولا تخجل أن تخبرهم بما تفعل.. (ابني يعاني من مشكلة اسمها “قلق الانفصال” ونحن ننفذ برنامج علاجي عبارة عن……. لذا نحتاج تعاونكم معنا من خلال السماح لنا ب؟ـ…. وبقاء الطفل في المدرسة بعض الوقت أفضل من عدم ذهابه إليها بالكلية.. ومع العلم أن حضوره لبعض الوقت هو لفترة مؤقتة فقط..

يحتاج الطفل إلى علاج نفسي يهدف إلى زيادة ثقته بنفسه وتشجيع روح الاستقلال فيه وإبراز أهميتها له.

 

 

عن د.محمد حسين

دكتور محمد حسين؛ مؤسس موقع نفسي دوت نت. استشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان استشاري الطب النفسي للأطفال والمراهقين. الزمالة المصرية للطب النفسى الزمالةالمصرية لطب النفس الأطفال والمراهقين عضو الجمعية المصرية للطب النفسي. عضو الجمعية المصرية للعلاج المعرفي السلوكي. عضو الجمعية المصرية للطب النفسي للأطفال والمراهقين.

أبحث أيضاً في

الحشيش وأخواته

يعد الحشيش من أكثر المواد المخدرة الأكثر إنتشارآ فى العالم و الأكثر إثارة للجدل  تجاهها …